في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، يظهر أن الرجال يعانون من مشكلة متزايدة تتعلق بعدم الإنجاب، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة حول الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تقف وراء ذلك.
بينما يتم غالباً ربط مشكلة العقم بالنساء، تشير الدراسات الحديثة إلى أن الرجال هم أيضاً يعانون بشكل متزايد من صعوبات في الإنجاب، سواء كان ذلك بسبب العوامل البيولوجية أو الظروف المجتمعية والاقتصادية.
فما هي الأسباب التي تقف وراء ارتفاع معدلات “عدم الإنجاب” لدى الرجال؟ وهل تلعب المجتمعات دوراً في تفاقم هذه الظاهرة؟
العوامل الاجتماعية والاقتصادية وراء تزايد “عدم الإنجاب” لدى الرجال
تشير الدراسات إلى أن انخفاض الدخل والظروف الاقتصادية الصعبة تلعب دوراً كبيراً في معدلات “عدم الإنجاب” بين الرجال. ففي دراسة نرويجية أجريت عام 2021، تبين أن الرجال ذوي الدخل المنخفض يعانون من مشاكل أكبر في الخصوبة، حيث سجلت الدراسة أن 72% من الرجال في أدنى 5% من فئات الدخل كانوا يعانون من عدم الإنجاب مقارنة بـ 11% فقط بين أصحاب الدخل الأعلى. هذه الهوة الاقتصادية التي تتسع عاماً بعد عام تجعل من الصعب على العديد من الرجال أن يكون لديهم القدرة على تأسيس عائلة.
الضغوط الاقتصادية وتأثيرها على قرار الإنجاب
على الرغم من أن “عدم الإنجاب” قد يكون اختياراً شخصياً بالنسبة لبعض الرجال، إلا أن العديد منهم يعانون من “العقم الاجتماعي”، وهو مصطلح يعبر عن التحديات التي يواجهها الرجال بسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي. روبن هادلي، أحد الرجال الذين يواجهون هذه المشكلة، يروي تجربته قائلاً إنه كان يعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة، مما جعله يواجه صعوبة في إقامة علاقة مستقرة وتكوين أسرة. من هنا، نرى أن العوامل المالية تلعب دوراً كبيراً في زيادة معدلات “عدم الإنجاب”.
التغيرات الثقافية وأثرها على رغبة الرجال في الإنجاب
في الماضي، كان الإنجاب يُعتبر خطوة حتمية في مسيرة الحياة، خاصة بعد الزواج. لكن مع التغيرات الثقافية والاجتماعية الحديثة، أصبح الإنجاب في نظر العديد من الرجال مسألة تأتي بعد تحقيق عدة أهداف حياتية أخرى مثل الاستقرار المهني والتعليم. وفقاً للدكتورة آنا روتكيرش، العالمة في علم الاجتماع الديموغرافي في فنلندا، فإن النظرة تجاه الإنجاب قد تغيرت بشكل كبير. حيث لم يعد إنجاب الأطفال جزءاً من الخطط المبكرة للشباب، بل أصبح حدثاً يتأخر حتى يتمكن الفرد من تحقيق أهدافه الشخصية.
أزمة “الخصوبة الذكورية” وتأثير التكنولوجياد
في العصر الحديث، تلعب العوامل الثقافية والتكنولوجية دوراً كبيراً في تغيّر المواقف تجاه الإنجاب. فالشباب اليوم يعيشون في عالم مليء بالضغوط التكنولوجية والمهنية، ما قد يؤدي إلى تراجع رغبتهم في تأسيس أسرة. كما أن زيادة استخدام الهواتف الذكية والشاشات قد يكون لها تأثير سلبي على العلاقات الزوجية، مما يؤدي إلى زيادة معدلات “عدم الإنجاب”. على سبيل المثال، في الصين، بدأ عدد الشباب الذين يرفضون فكرة الإنجاب في الزيادة بشكل ملحوظ، ما يعكس تحولات ثقافية واجتماعية تساهم في ارتفاع معدلات “عدم الإنجاب”.
هل الرجال عرضة لانخفاض الخصوبة؟
على الرغم من أن “عدم الإنجاب” لدى الرجال يرتبط بشكل كبير بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن هناك أيضاً عوامل بيولوجية تؤثر على قدرة الرجال على الإنجاب. تشير الدراسات إلى أن خصوبة الرجال تتأثر بشكل كبير مع التقدم في السن. فبعد سن الـ35، تبدأ الحيوانات المنوية في التراجع من حيث الجودة والكفاءة، وهو ما يساهم في زيادة صعوبة الإنجاب مع تقدم العمر. هذه القضية غالباً ما يتم تجاهلها في النقاشات العامة حول الخصوبة، على الرغم من أن الرجال أيضاً لديهم “ساعة بيولوجية” مثل النساء.
الإحصائيات العالمية تؤكد تراجع الخصوبة الذكورية
على المستوى العالمي، تظهر البيانات أن خصوبة الرجال تشهد تراجعاً ملحوظاً في العديد من الدول، مما يزيد من ظاهرة “عدم الإنجاب”. ففي فنلندا، على سبيل المثال، سجلت الدراسات انخفاضاً في معدلات الإنجاب على الرغم من السياسات الداعمة للأسرة. أما في المملكة المتحدة، فقد أظهرت الدراسات أن الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، أصبحوا أكثر تردداً في اتخاذ قرار الإنجاب بسبب الضغوط المالية وارتفاع تكاليف الحياة.
التحديات الاجتماعية وتأثيرها على الرجال
العديد من الخبراء يؤكدون أن المجتمع يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تزايد معدلات “عدم الإنجاب” بين الرجال. فالتوقعات الاجتماعية تجاه أدوار الرجل قد تكون عبئاً إضافياً، في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها المجتمع. فعلى الرغم من أن النساء يواجهن ضغوطاً كبيرة بشأن الإنجاب، إلا أن الرجال أيضاً يتعرضون لضغوط مشابهة تتمثل في تأمين الاستقرار المالي والاجتماعي قبل اتخاذ قرار الإنجاب.
الحاجة إلى بيانات شاملة عن خصوبة الرجال
واحدة من أبرز المشاكل التي يواجهها العلماء والباحثون في دراسة “عدم الإنجاب” لدى الرجال هي نقص البيانات الشاملة. ففي العديد من البلدان، لا يتم تسجيل الخصوبة الذكورية بشكل دقيق مثلما يحدث مع النساء، مما يؤدي إلى نقص في فهم الأسباب الدقيقة لهذه الظاهرة. مما يزيد الحاجة إلى المزيد من الدراسات والمناقشات حول خصوبة الرجال وكيفية تأثير العوامل البيولوجية والاجتماعية عليها.
معدلات “عدم الإنجاب” لدى الرجال هي قضية معقدة تتداخل فيها العديد من العوامل الاقتصادية، الثقافية، والبيولوجية. وبينما لا يمكن إنكار دور المجتمع في التأثير على هذه الظاهرة، إلا أنه من الضروري أن يتم توسيع النقاش حول خصوبة الرجال واعتبارها قضية صحية مجتمعية. من خلال زيادة الوعي وتوفير المزيد من البيانات، يمكن العمل على تطوير حلول أكثر شمولية للتعامل مع هذه الأزمة المتزايدة في العديد من أنحاء العالم.